هلامية الوقت
Sep 26, 2018هلامية الوقت
من أكثر الأشياء الهلامية الموجودة في حياتنا هي ما نسميه "بالوقت".
والوقت ما هو إلا حركة الطاقة في المكان؛ فكل شيء في الكون هو طاقة، ومن خلال الذاكرة نستطيع كبشر أن نسجل صورا من أشياء لم تعد تحدث هنا والآن، ونقارنها بالصور الموجودة أمامنا في الحاضر، ونستطيع أن نشعر وندرك بالفترة بين الصورتين ونقدرها بناء على عوامل كثيرة فنقول "هذا الحدث أخذ وقتا طويلا أو قصيرا".
ولكن هذا الإدراك للوقت ليس مطلق انما هو نسبي ... بل شديد النسبية والهلامية ويختلف من شخص لآخر ويختلف عند نفس الشخص في مواقف مختلفة! وبعيدا عن تعقيدات الفيزياء والنظرية النسبية، دعونا نأخذ أمثلة من حياتنا اليومية عن هلامية الوقت وبعض العوامل المؤثرة في اختلاف ادراكنا للوقت:
التفكير: إذا كنت تعاني من التفكير الزائد ويومك دائما ممتلئ بالأحداث والمهام التي عليك إنجازها سريعا، فغالبا سيكون شعورك هو أن "الوقت دائما يمر بسرعة". والموضوع هنا ليس بالضرورة متعلقا بالوقت ولكن بسبب أن رأسك دائما ممتلئ بالحركة السريعة والقفز من فكرة لفكرة، ويومك ممتلئ بالمهام غير المنجزة وقلبك ينبض سريعا كأنك في سباق. فالأجدر بك أن تقل "إني أفكر أكثر من اللازم" أو "يومي ممتلئ بمهام أكثر من اللازم".
التأمل: يعلم محترفو ممارسة التأمل جيدا حالة "اللا فكر" أو "نقطة الصفر"؛ وهي مرحلة يصل لها ممارس التأمل بالتدريب حيث يكون العقل شبه خال من الأفكار بينما الشخص في حالة يقظة وحضور تام في اللحظة الحاضرة. وفي تلك الحالة التي تعجز الكلمات عن وصفها يختلف ادراك الوقت كليا عن كل ما هو مألوف للعقل! فقد يشعر الشخص أنه قضى أياما أو ساعات في نفس الجلسة بينما هو لم يجلس سوى نصف ساعة! أو قد يختفي إحساس الوقت تماما كأن الزمن والحياة كلها تجمدت في اللحظة الحالية. وبما أن الوقت مرتبط بالحركة والأحداث والتفكير، فمن المنطقي أن يقل أو يختفي إحساس الوقت في تلك الحالة التي ليس فيها شيء يحدث أو حركة تذكر.
المشاعر: كيف تشعر عندما تكون في يوم عمل ممل؟ أو زيارة روتينية أو مع شخص ثرثار لا تستحسنه؟ أو تحت تأثير ألم جسدي معين؟ تؤثر المشاعر وترتبط ارتباطا وثيقا بإدراكنا للوقت. فالمشاعر مثل الرفض والملل التي تتلخص في عبارة "متى ينتهي هذا؟!" تطيل وتضاعف الإحساس بالوقت. وكذلك عندما تكن خائفا بشدة من وقوع أمر ما في المستقبل فإنك غالبا ما ستشعر أن "الوقت يمر بسرعة" وأنك لا بد أن تفعل شيئا ما قبل وقوع الكارثة وتنهال عليك الأفكار المشتتة. أما عندما يواجه الشخص موقفا خطرا يهدد بقائه فإنه قد يفقد الإحساس بالزمن "مثل ممارس التأمل" ويشعر أن كل شيء يمر بالتصوير البطيء! ويحدث هذا بسبب الكثافة الحسية، حيث يُضخ الأدرينالين بقوة في الدم وتنتبه الحواس بالكامل حتى يستطيع الشخص أن يقوم بالتصرف المناسب، فيرى أدق تفاصيل المشهد كأن كل شيء يحدث بالتصوير البطيء. وتحدّث كثيرون عن مثل تلك التجارب أثناء الحوادث أو في غرف العمليات، وتسمى بتجارب "الإقتراب من الموت"، حيث يشعر الشخص أنه على حافة الموت وكأنه يدرك المشهد من مكان آخر، ادراك مختلف كليا عن إدراكنا المعتاد للحياة اليومية.
وتحدث ظاهرة مشابهة عندما نرى صور تذكارية مميزة لنا في الماضي ومع أناس نحبهم، غالبا ما نردد "إن الوقت مر بسرعة" أو "أذكر هذا كأنه حدث أمس". الحقيقة هنا أن تجربتك في الماضي كانت مرتبطة بكثافة حسية ومشاعر معينة تركت أثرا فيك وموجودة معك إلى الآن. المشاعر هي طاقة لا تعرف الزمان والمكان. الحدث كتجربة حسية انتهى لكن المشاعر لا زالت موجودة وتكاد تكون بنفس القوة لدرجة أنك لا تكاد تصدق أن هذا حدث من سنوات ... المشاعر موجودة الآن وأشعر بكل شيء كأنه يحدث الآن فكيف مر كل هذا الوقت؟ لا بد إذا أن الوقت يمر بسرعة!
المعتقدات: تلعب المعتقدات دورا رئيسيا في ادراكنا للوقت، والمعتقدات هي الأفكار المترسخة بداخلنا عن أنفسنا وعن العالم، وفي الغالب تكون تلك الأفكار قد ترسخت منذ زمن طويل من خلال التربية أو التعليم أو الإعلام أثناء تجارب معينة مررنا بها أو عبارات ترددت بلا نهاية أمام أعيننا حتى حفظناها وصارت تشكل إدراكنا للعالم. ومن أمثلة ذلك عبارة "الوقت صار يمر بسرعة" أو "لم يعد في الوقت بركة" أو "لازم نلحق" إلخ ... فإذا كنت تردد تلك العبارات باستمرار بلا وعي فلا عجب أن تقضي أيامك تلهث ساعيا أن تُحصّل أي شيء من الوقت الذي يمر بسرعة وليس فيه بركة .. والأفضل لك أن تتوقف! وتبدأ بممارسة التأمل أو تغيير معتقداتك عن الوقت وتردد جمل مختلفة. تأكد أن أي فكرة تعقتد بها وترددها بكثرة سوف تحدد رؤيتك للعالم.
المكان: بما أن الوقت -كما ذكرنا- هو حركة الطاقة في المكان، فلا شك أن التواجد في أماكن ذات طابع مختلف قد يؤثر بشكل كبير على إدراكنا للوقت. هل إدراك سكان المدن للوقت هو نفسه إدراك البدو في الصحراء؟ كثيرا ما يتذمر أهل المدينة من بطئ وكسل الخدمة أثناء تواجدهم في إجازة بأحد المناطق البدائية البعيدة عن الحضر، بينما لا يطيق سكان تلك المناطق أن يقضوا بضع أيام في العاصمة بسبب الصخب والركض المستمر الغير مبرر بالنسبة لهم! ما الذي يحدث هنا؟ أو دعونا نسأل ما الذي يحدث في الصحراء؟ نفس الجبال .. نفس النجوم والسماء .. نفس المشاهد .. في الأغلب نفس الناس والجميع يعرفون بعضهم .. الحياة شبه ثابتة وساكنة وكل تغيير يكون تدريجي وبطيء ويأخذ كثير من الوقت. لا يحدث الكثير .. ولهذا يوجد إحساس عام باتساع الوقت و"البراح". أما في المدينة فالأمر مختلف تماما! آلاف السيارات تمر في نفس اللحظة، اللافتات والإعلانات والناس يتغيرون كل ثانية .. الحياة في حركة دائمة والجميع في لهفة يتوجهون من وإلى كل مكان! وبسبب هذه الحركة الصاخبة والتغيريوجد إحساس دائم يخيم على سكان المدينة أن "الوقت أزف".
التنفس: من أهم العمليات الحيوية التي تتحكم في التفكير والإدراك والصحة الجسدية والنفسية وتقريبا كل شيء. ومن أهم أسباب التوتر والإجهاد والإصابة بالأمراض والمعاناة في الحياة عموما هو عدم المعرفة بطرق التنفس الصحيح واعتبارها عملية "تحدث على أية حال". وبشكل عام كلما كان تنفسك أبطأ وأعمق وأكثر هدوئا، كلما كانت ضربات قلبك متزنة وازداد نشاطك وضخ الدم في جسمك وازداد صفائك الذهني وارتفعت قدرة عقلك على التركيز والقيام بالوظائف المختلفة بسلاسة، وتعيش في اللحظة الحاضرة باستمتاع أكثر دون أن تلهث باستمرار أو تشعر أن "الوقت أزف". وعلى الجانب الآخر كلما كان تنفسك قصيرا ومتقطعا كما هو الحال مع معظم الناس، كلما كانت ضربات قلبك أسرع وأثر ذلك سلبا في كل جوانب حياتك الصحية والنفسية وتشعر دائما أنك تحت التهديد والوقت يمر بسرعة أو أن "خطرا ما على وشك أن يحدث".
لذلك تعلم التنفس الصحيح هو الخطوة الأولى في طريق التأمل والوعي. الإستمتاع الحقيقي بالحياة يبدأ عندما نتعلم أسس العيش في اللحظة الحاضرة بدلا من الإنخراط الزائد في أوهام الماضي والمستقبل من ندم وخوف ومعاناة.
لمعرفة المزيد عن ممارسة التأمل وتطبيق فن العيش في اللحظة الحاضرة في حياتك اليومية بطرق سلسة وعميقة، انضم لندوة تعريفية مجانية عن ورشة عمل "قوة الآن"
https://www.facebook.com/events/258061948174773/